نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
إليزه سميردجيان وبقايا النساء في التطهير الأرمني, اليوم الثلاثاء 3 يونيو 2025 12:34 صباحاً
وهي باحثة لم تألُ جهدا تقدم مقارنات ودراسات بين الشعبين الأرمني والفلسطيني عاقدة لأوجه الشبه بين السياسة التركية العثمانية آنذاك والإسرائيلية اليوم. وهذا الكتاب الذي فاز بالمركز الأول بجدارة وبإجماع لجنة المسابقة مستحق منذ الصفحة الأولى التي تركتني أرتعش وأنا أقرأه حتى اتخذت لي وقتا ومكانا أكثر تركيزا يمكنني أن أقرأ فيه وأضع ملاحظاتي وقراءتي وتقييمي وأنا متمكنة من السيطرة على مشاعر الألم والغضب والهول الذي كان يجتاحني وأنا أعبر صفحاته.
أول ما يقابلك في الكتاب صورة الغلاف الذي ملأ صفحته وجه امرأة موشومة الذقن ونقاط محددة على خديها، أنفها، جبينها وما بين حاجبيها في ضباب أسود يلف بقية الوجه، ونظرة حادة تخترق عدسة المصور إلى من يقف قبالتها تحمل ألم وقهر وتحدٍ. هذه الصورة هي بداية إحدى قصص هذا الكتاب، إحدى نسائه وضحاياه اللاتي وصمن بالوشم.
قصة الإبادة الأرمنية تعود في بداياتها إلى نهاية القرن التاسع عشر حين تعرض الأرمن بعد عدة مطالبات للدولة العثمانية بتحسين أوضاعهم المعيشية وحمايتهم من تسلط الجباة عليهم وما يتعرضون له من اعتداءات وسرقة وغيرها وأن يعترفوا بمواطنتهم لا سيما في الفترات الدستورية اللاحقة وعلى الرغم من الوعود إلا أنهم تعرضوا لعدد من المجازر التي أطلق فيها العثمانيون يد الأكراد في الأرمن يقتلون كيف يشاؤون، فيما يعرف بالخيالة الحميدية، والتي كانت جزءا من سياسة الدولة في تسليط القوميات بعضها على بعض، والتي وقع أكبرها بين عامي 1895-1896.
كان جزءا من التسبب فيما يعرف بالمسألة الأرمنية هي سياسة التتريك القومية التي تلت الانقلاب الدستوري عام 1908 والذي تفاءلت به كل الأقليات الذمية، لكن العام الذي تلاه 1909 شهد انقلابا مضادا وإثنيا بدأ بمجزرة في أضنة، ومن ثم تحولت إلى سياسة ممنهجة لطرد كامل الشعب الأرمني من الأراضي التركية الشرقية بحلول عامي 1915-16 بعد أن تم التخلص من الإثنية اليونانية ثم تلا الأرمن قوميات مسيحية أخرى كالآشوريين وحتى مسلمين كالأكراد. كان هذا التحرك جزءا من استعدادات الدولة العثمانية لخوض الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا ضد روسيا إلى الشرق منها وبريطانيا على حدودها الغربية.
ومن ذلك كان إعلان النفير العام (سفر برلك) والتعبئة العامة في كل الولايات العثمانية والتي فرضت الخدمة العسكرية الإجبارية على كل الشباب المسلمين وغير المسلمين بين 15 و45 عاما دون أي تجهيز، وهُجّر بسببها عشرات الآلاف من العراق ومصر وسوريا وفلسطين والمدينة المنورة ابتداء من يوليو 1914 إلى الحدود التركية الروسية وغيرها من خطوط المواجهات حيث قتل معظمهم تحت الانهيارات الثلجية والبحيرات المتجمدة.
لكن الأرمن كان مصيرهم مختلفا وقررت الدولة التخلص منهم للخوف من أن يساندوا روسيا أو أرمينيا الروسية فكان بداية العقاب الجماعي من يوم 15 أبريل من عام 1915 حين نقلوا مئات من المثقفين الأرمن من إسطنبول إلى أنقرة حيث تم إعدامهم جميعا، ثم بدأت ما عرفت بمسيرة الموت لمئات الألوف من النساء والأطفال والشيوخ عبر بادية الشام إلى دير الزور من عينتاب ووان وأورفا ومنبج ورأس العين وغيرها وبمرافقة الجنود العثمانيين بعد أن جردوهم من أملاكهم وأموالهم وملابسهم، وهدموا مئات من الدور والكنائس وصادروا أملاكها، واضطروهم للمشي لمئات الكيلومترات في وسط الصحراء دون طعام أو شراب، وفي كثير من الأحيان دون ملابس، مما أدى إلى أن يقضى الآلاف في الطريق ويُتركوا دون دفن ولا توديع، أو يتعرضوا للنهب والخطف والقتل أو القضاء جوعا وعطشا وهم يسيرون دون أي حماية بعد أن فرقوا بين النساء والرجال.
رحّل الجنود العثمانيون حوالي 800,000 أرمني وأرقام ترفعها إلى مليون ومائتي ألف، من دورهم وقراهم خلال ايام باتجاه الجنوب الغربي منها ما استغرق أياما ومنها شهورا. كانت قصص من نجا مخيفة وبشعة، فيها قتل وتجويع وتعذيب وإذلال.
لم تكن إليزه سيميردجيان في صدد تقديم سرد تاريخي للمذابح الأرمنية على يد الدولة العثمانية وجمعية الاتحاد والترقي وفظائعها فقد تولت آلاف الدراسات هذا الأمر، وإنما في صدد الحفر في الذاكرة الأرمنية بحثا عن صوت غاب أو صورة محيت أو شعور طمس. كانت الكاتبة مهمومة بقص القصة الداخلية للنساء، المشاعر المجهولة والممنوعة، دواخلهن وآلامهن، عارهن وحروبهن.
كانت تسعى إلى توضيح كيف أثّر الجندر (الجنوسة) والنظام الأبوي والجسد على التفكير الإبادي وإلى تسليط الضوء على أثر الاختطاف والأسلمة والاستعباد الجنسي على العدوان الإبادي ضد الجسد الأرمني الفردي والجماعي. فيشهد جسد الأرمن وجلدهم وعظامهم على الصدمة وكذلك على الذاكرة المحفورة في الجسد. أرادت أن تعلي من صوت الضحايا مستخدمة الأرشيف كدليلها على الجريمة، والذي بدوره استخدم كأداة لبناء الدولة التي تمحو الآثار الاجتماعية والنفسية لكيفية تعرض الرعايا العثمانيين للإبادة الجماعية.
وقد قسمت إليزه سيميردجيان Elyse Semerdjian كتاب «بقايا» الأرشيف المجسد للإبادة الأرمنية، إلى ثلاثٍ من مظاهر الجسم وهي الجسد، البشرة، والعظام مؤجلة تناول الدم إلى وقت آخر. ثم تقسمها إلى تسع «بقايا» تتكون من قصص قاسية، مثل بقايا قصة الرقصة التي أدتها ثلاثون عروسا أمام أزواجهن عرايا تحت السلاح الذي يطلب منهن الرقص حتى الموت من العار والذل أمام رجالهن المكبلين وفي وسط ساحة القرية حيث كن يزفون، حيث يصبح العار جزءا من الإبادة وسلاحا ماضيا.
بقايا رقم اثنين كانت عن الفتيات الأرمنيات داخل البيوت العربية اللاتي إما خُطفن أو ضُممن إليها وتزوجن من رجالهن أو استعبدن. بقايا متعددة تتناول الجسد بكل تفاصيله وقد تحول إلى خارطة لإخضاع الأرمني وتجريده من كل ما يمكن أن يعتبر إرثا يقوم عليه مجتمعه وذاكرته، عزته وشرفه، سواء كان امرأة أو رجلا. تتحدث عن عملية الخطف الممنهج والتعذيب الذي تعرضت له الفتيات الأرمنيات ومن ثم أسلمتهن ومزجهن مع أسرهن العربية الجديدة بعد محو ذاكرتهن بكل الوسائل. الأسلمة كانت تجري أيضا على الرجال المجندين والعاملين عندما يعجزون عن قتلهم، يأمروهم باعتناق الإسلام والختان.
كانت هناك محاولات مقاومة وإنقاذ خلال تلك الفترة لكنها كانت صعبة وتصل متأخرة. وصعّبت الحرب من الوصول إلى سوريا فضلا عن التواطؤ الذي حدث بين الدولة العثمانية وألمانيا القيصرية التي كان عمالها ومهندسوها منتشرين في الصحراء السورية يمدون سكة الحديد الممتدة إلى الحجاز شهودا على ما يجري. وكان منهم من غذى العثمانيين بكل الأفكار الجهنمية في عملية الإبادة مما أتقنوه في أول إبادة اقترفوها في التاريخ في ناميبيا بجنوب غرب إفريقيا لشعوب الهيريرو وناما وأوفاهيرو والبوشمن بين عامي 1904 و1908.
وكما فعل الألمان في ناميبيا، فقد اعتمدت الحكومة العثمانية الإذلال الجنسي كوسيلة من وسائل التخويف للنساء والرجال، ليس فقط بالاغتصاب بل بالبغاء القسري والزواج بالإكراه وبالبيع في سوق النخاسة وتشويه أعضائهن الجنسية، بدءا من بنات المدينة من الطبقة المثقفة والمخملية وانتهاء بنساء القرى والأرياف. لم يكن هناك استثناء.
كانت هناك محاولات حثيثة من عدد من المنظمات الأرمنية في الخارج للبحث عمن نجا وتبقى من التطهير العرقي الذي عانى منه الأرمن وبحث عن مآلاتهم خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، منها ما نجح في إنقاذ بضع مئات من الفتيات والفتيان وتم ضمهم إلى ملاجئ خاصة بالمسيحيين في حلب وإسطنبول وطرابلس وبيروت، وبعضهم وصل الرقة والموصل، لكن المسألة لم تكن بهذه السهولة وقد غُمرت قصة الإبادة بكثير من التغمية والسرية فضلا عن الإنكار وتحوير الأهداف وكأنها لم تكن عملية مبيتة بليل.
وقد انتهى المقام بآلاف الفتيات في البيوت العربية وقد تغيرت أسماؤهن ومعالمهن، وتزوجن وأنجبن واندمجن في المجتمع العربي المسلم، وأصبح الكثير من الأرمن نتاجا لزواجات مختلطة مما أدى إلى كثير من التوتر في العلاقات العربية الأرمنية لسنوات طويلة ومضت السنوات وغدا من الصعوبة بمكان أن تجد الأسر بعضها البعض وقد تفرقت في البلاد. كان هناك الكثير من التفاصيل المؤلمة والخسارات الفادحة.
استعرضت إليزه في تتبعها لسيرة جدتها في مسيرة الصحراء حتى وصلت إلى حلب قصص أجساد النساء التي أصبحت ساحة قتال لا تنتصر فيها النساء. تعريتهن كانت بغرض تجريد النسيج الاجتماعي من كرامته وعزته بكل صوره. كان الهدف هو نزع الصفة الإنسانية عن الأرمن بكل الوسائل، كان التجريد من الملابس إحدى هذه الوسائل الناجحة، والتي كانت المسمار الأخير في نعش النظام الاجتماعي وتفكيكه.
لتتحول بعد ذلك للحديث عن ملامح بشرة النساء وجلودهن وكيف غدت بدورها ساحة لعلامات الإذلال بتحويل الوشوم إلى لغة للنخاسين تكسو النساء الأرمنيات بالعار مدى الحياة، فمن الوشم ما كان علامة لهوية قبائل ومنها ما كان علامة للنساء اللاتي استعبدن. لكن القصة لم تنته هنا فقد كانت هناك مقاومة وذاكرة وخيوط تصل أطراف القصص ببعضها البعض، ولتتعرف الأسر على بعض بناتها وأخوتها، وفي بعض الأحيان كانت طريقة لحماية هذه الفتيات من الجنود الأتراك الذين كانوا لا يزالون يبحثون عن أي ناجيات. وبصورة عامة فإن دلالات الوشوم ما زالت تخضع لدراسات مطولة لتصل إلى قاعها ودلالاتها الحقيقية.
أما الجزء الثالث والخاص بالعظام، فقد تحولت كل الطرق المؤدية إلى دير الزور إلى طرق حج للأرمن اليوم، طريق راس العين - حلب - دير الزور أو راس العين - الحسكة - مارغادا وإلى دير الزور، يصلون في نهايته إلى كنيسة الشهيد المقدس في دير الزور، التي فجرها إرهاب داعش عام 2014 بدعوى التقوى.
وقد ضمت هذه الكنيسة رفات الكثير من الأرمن ممن جمعت عظامهم من الصحراء، وممن وصلوا المدينة وعاشوا فيها، مستذكرين معاناتهم وتضحياتهم. هذا الجزء تناول أيضا تتبع آثار العظام. وقد أصبحت طقوس الدعاء لشهداء الإبادة طقوسا مرتبطة بتقديس العظام البشرية بشكل مخيف حقا فضلا عن تحول الصحراء إلى مزارات للمجهولين ممن عثر على جماجمهم متناثرة في كل مكان. وتحول يوم 24 أبريل إلى يوم خاص بالمجزرة يحتفي بذكراه الأرمن في كل مكان وتقام القداسات في كنيسة دير الزور وكنيسة مارغادا على الخابور لإحياء الدعاء لأرواح الشهداء.
بعد مرور قرن على هذه الجريمة ما زالت تركيا الحديثة لم تعترف بها بعد ولم تعتذر للشعب الأرمني عنها، تنكر وتخفي الكثير من الوثائق التي يبحث عنها الشعب الأرمني لاستعادة أوصاله فضلا عن استحقاقاته المعنوية والمادية التي صادرتها الدولة العثمانية وأدخلتها في خزينتها.
لم تكن قراءة هذا الكتاب سهلة بأي حال كما أنها لم تكن كتابة سهلة بالتأكيد، وهو حال آلام الشعوب التي لا يبقى لها من القدرة على المقاومة سوى رفع القلم وتوثيق ما يمكن توثيقه ليبقى صامدا أمام التاريخ وشاهدا لا شهيدا فحسب.
0 تعليق