التاريخ في قبضة السياسة: الغرب بين إرث الاستعمار ومطالب التعويض

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تتصاعد في الغرب اليوم دعوات تطالب بمحاسبة تاريخية عن العبودية والاستعمار، تتراوح بين المطالبة بالتعويضات وفرض الاعتذار الرمزي. لكن وسط هذا الزخم، يبرز تساؤل جوهري: هل يمكن إنصاف الماضي بمعايير الحاضر؟ وهل تكفي التعويضات لتسوية إرث معقد تتداخل فيه الأخلاق بالسياسة والذاكرة؟
في خضم الجدل العالمي المتصاعد حـــول العدالــــة التاريخية والإرث الاستعماري، يأتي كتاب الفيلسوف البريطانــي نايجل بيغــار الجديد «التعويضـــات: استبـــــداد الذنــــب المتخيل» ليضع علامات استفهام جريئة حول مطالب إعادة الاعتبار والتعويضات المالية التي تُوجّه إلى الدول الغربية، خاصة تلك التي كانت في صلب المشروع الاستعماري العالمي. الكتاب، الصادر عن دار نشر جامعة أكسفورد في 2025، هو امتداد فكري لعمله السابق «الاستعمار: مراجعة أخلاقية» ويشكّل حلقة جديدة في مسار فكري يسعى إلى تفكيك ما يراه بيغار «روايات أخلاقية انتقائية تُبنى على شعور تاريخي غير مدقق بالذنب».
ينطلق الكتاب من تساؤل مركزي: لماذا تُطرح اليوم، بإلحاح متزايد، دعوات تطالب الدول الغربية بتقديم تعويضات عن أفعال وقعت قبل قرون؟
ويرى المؤلف أن هذا الحراك الجديد لا يمكن فصله عن اللحظة السياسية الراهنة، التي تتسم بتجدد الخطاب الهوياتي وتصاعد مطالب مراجعة الماضي الكولونيالي، لا سيما في بريطانيا والولايات المتحدة. لكنه، في المقابل، لا يتعامل مع هذه المطالب بوصفها بديهية أخلاقية، بل يخضعها لتحليل نقدي صارم، يجمع بين السياق التاريخي والنظر الأخلاقي المقارن.
بيغار، المعروف بدفاعه عن قراءة متوازنة لتاريخ الإمبراطورية البريطانية، لا ينكر وقوع مظالم في حق شعوب المستعمرات، بل يُقر بذلك بوضوح، لكنه يرفض تحويل الماضي إلى منصة أخلاقية مطلقة تعفي الحاضر من مسؤولية الفهم التاريخي المعقّد، فهل من المنطقي -يتساءل- أن تُحمَّل أجيال اليوم وزر أفعال ارتكبتها نخب سياسية واقتصادية في عصور مختلفة؟ وهل يمكن تسوية حسابات التاريخ عبر تحويلها إلى تعويضات مالية وكأنها دعاوى قانونية في محكمة معاصرة؟
يتحدى الكتاب المفهوم السائد حول «الذنب التاريخي»، واصفاً إياه بـ«الذنب المتخيل» حين يُستثمر كأداة ضغط سياسي لا كمنطلق لفهم عقلاني للتاريخ، فوفقاً لبيغار، ليس من العدل ولا من الحكمة أن يتم احتكار السردية الأخلاقية لماضي الاستعمار والعبودية من طرف واحد، بل يجب الاعتراف بتعقيدات هذا الماضي، بما فيها العوامل المحلية وأدوار بعض النخب في المجتمعات المستعمَرة ذاتها.
وفي الجانب الأخلاقي، يُقدّم الكتاب ما يشبه الرد الفلسفي المضاد على تيارات العدالة التصالحية، فبدلاً من التركيز فقط على تصحيح الأذى، يدعو بيغار إلى التفكير في المسؤولية المشتركة والزمن السياسي للفعل وحدود التعويض كأداة للمصالحة.
قد لا يكون كتاب «التعويضات» الصادر عن دار «فورم» في 224 صفحة باللغة الإنجليزية، مريحاً للقارئ المتعاطف تلقائياً مع قضايا ما بعد الاستعمار، لكنه ضروري في أي نقاش جاد حول التاريخ والسياسة والأخلاق، لأنه يحاول إعادة تعريف العلاقة بين الذاكرة والمسؤولية، بين الماضي والحاضر، بين التوبة السياسية والتبصّر التاريخي. وفي عالم تزداد فيه المطالب بإصلاح التاريخ، يقدم نايجل بيغار عملاً يُذكِّر بأن العدالة لا تتحقق بالشعارات ولا بالثأر الرمزي، بل بالفهم النقدي المتوازن، حتى عندما يكون هذا الفهم مزعجاً.

أخبار ذات صلة

0 تعليق