نوافذ الروح: الحواس الخمس حين تبوح

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
نوافذ الروح: الحواس الخمس حين تبوح, اليوم الأحد 27 يوليو 2025 11:39 مساءً

الحياة لا تبخل علينا بدروسها، ولا بمعانيها العميقة، لكنها لا تفصح إلا لمن يراقبها بعين الرحمة، ويصغي لها بقلب ممتلئ بالانتباه، فمن بين تفاصيلها الصغيرة، تهبنا لحظات تهمس لحواسنا بلغة لا تقال، بل تشعر؛ كرائحة المطر حين يعانق التراب، وعبق القهوة في صباح هادئ، وصوت أمواج البحر حين تسرد حكاياتها للشواطئ، ونداء الأذان حين يوقظ الروح من غفلتها، وتلك اللمسة الآسرة من أصابع طفل حديث الولادة، أو نكهة طعم جديد يباغت حاسة التذوق بدهشة، ومشهد الشمس وهي تتسلل بين قمم الجبال في شروق مهيب، أو تنحني للغروب بين أمواج البحر كقصيدة وداع.

يقول الأديب (ماريو بينديتي) في روايته (الهدنة):

«إحدى أعظم سعادات الحياة: رؤية الشمس تتسرب من بين أوراق الشجر».

ومنها ما يهنأ به العقل، ويطرب له القلب، لحظات لا تلمس بالحواس، بل تدرك بالعمق: كفرحة الإنجاز بعد صبر ومثابرة، وبهجة العطاء حين تسعف محتاجا بصمت نبيل، أو تضمد جرح مكروب بكلمة دافئة، أو إكرام ضيف تعرفه أو لا تعرفه، أو في التغاضي عن هفوات الأهل والأحباب، أو انتظار صامت على أطراف الأصابع لعودة غائب عزيز، أو في صدفة سعيدة تنسجها الحياة، حين تجمعك الأيام بصديق قديم لم تطفئ مودته المسافات.

دخل يونس بن عبد الأعلى على الإمام الشافعي رحمه الله، وكان مريضا حين ذاك، فقرأ عليه يونس آيات من سورة آل عمران، فلما هم بالخروج، قال له الشافعي «لا تغفل عني، فإني مكروب».

لسان يهذي وآذان تصغي، وقد يجعلك سيف الحياء تستمع للجميع، استماع المهتم المتعلم المتعاطف، ولكن خبرة السنوات وتعدد اللدغات يجبرانك على عدم تصديق كل ما تسمع، قد تلمع العبارة ببهاء ظاهري، لكنها تحمل خلفها نوايا باهتة، أو مقاصد مغلفة بالود المصطنع، وهنا لا يكون الإنصات ضعفا، بل حكمة تختبر الصمت، وتزن المعاني قبل أن تمنحها ثقتك، فالعمر حين يتقدم، لا يثقلك فقط بذكريات عذبة أو موجعة، بل يمنحك سعة البصيرة، لتدرك أن كل صوت لا يقال، وكل شعور لا يعلن، أصدق أحيانا من حديث طويل لا يسكنه صدق.

يقول ابن حزم رحمه الله:

«أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك؛ لأنه نبه على نقصك».

ولأن الحياة تدرس بلا لوح ولا طبشور، فإن الحواس وحدها لا تكفي لفهمها، لا البصر يرى الحقيقة كاملة، ولا السمع يلتقط صدق النوايا كل مرة، فلا بد من حاسة سادسة يصوغها القلب، ويصقلها الزمن، اسمها الحدس أو الفراسة، أو ربما ذلك الشعور الغامض الذي يهمس في داخلك: (احذر، صدق، تجاهل، اقترب، ابتعد).

وهكذا، تتكامل الحواس مع التجربة، وتتعانق الغرائز مع الحكمة، حتى لا تبقى مجرد متلقٍ لما يمر بك، بل تصبح قارئا لما وراء اللحظة، وما بين الكلمات، وما تحت الجلد من مشاعر تختبئ خلف نظرة أو تنهيدة أو صمت طويل.

وهكذا نمضي في دروب الحياة، نصغي بأكثر من أذن، ونبصر بما هو أعمق من العين، ونتذوق اللحظة لا بالطعم فقط، بل بالشوق والذكريات، حواسنا ليست مجرد أدوات إدراك، بل نوافذ تطل منها أرواحنا على العالم، وتلتقط بها نبض الجمال، ووقع الألم، وهمسات المعنى، ومع كل تجربة تنضج هذه الحواس وتتهذب، حتى تصبح مرآة صافية، لا تعكس فقط ما حولنا، بل ما فينا أيضا، فالحياة ليست ما نراه أو نسمعه أو نلمسه فقط، بل هي ما نشعر به بعد أن تهدأ كل الحواس، ويبدأ القلب في التأمل.

أخبار ذات صلة

0 تعليق