(مسألة حياة أو موت).. حينما تخاف الفانتازيا من جنونها

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
(مسألة حياة أو موت).. حينما تخاف الفانتازيا من جنونها, اليوم الاثنين 29 ديسمبر 2025 12:18 مساءً

في الوقت الذي تعاني فيه صالات السينما المحلية غالباً من هيمنة لون واحد، وتكرار للقوالب السردية التي تفضل البقاء في المناطق الآمنة والمضمونة جماهيرياً، جاءت اختيارات مهرجان البحر الأحمر السينمائي لهذا العام لتقدم وميضاً لما يمكن أن يكون عليه المشهد لو امتلك الجرأة على التعدد. نحن هنا أمام أربعة أفلام روائية طويلة حاولت أن تملأ هذا الفراغ الكبير في التنوع الذي تفتقده السينما المحلية بشدة؛ فمن هيفاء المنصور التي طرقت باب الإثارة والغموض في (المجهولة)، إلى شهد أمين التي قدمت في (هجرة) طرحاً شاعرياً مغايراً يتسلق روحانية الحج بلغة بصرية نادراً ما نراها، وصولاً إلى فيلم (رهين) الذي حاول تقديم معادلة الأكشن الجماهيري بصبغة تلفاز11.
وسط هذه المحاولات لكسر الرتابة، كان العنوان الأكثر صخباً والترقب الجماهيري من نصيب فيلم (مسألة حياة أو موت). هذا العمل الذي نفذت تذاكره في وقت قياسي، لم يجذب الجمهور بأسماء صناعه فحسب، بل بفرضيته التي بدت مشاكسة للسائد، واعدةً بخلطة غير معتادة تمزج الفانتازيا بالواقع، وتناور في مساحة الكوميديا السوداء والرومانس، مما جعله محط أنظار الجميع.


(حياة) تحلم ولا تموت

لا يمكن قراءة الفيلم بمعزل عن الثنائية التي تشكلت ملامحها بين المخرج أنس باطهف والكاتبة والممثلة سارة طيبة، والتي بدت إرهاصاتها واضحة منذ مسلسل "جميل جداً" عام 2022. هذه الثنائية التي تميزت بشغفها بالقصص الفريدة والشخصيات التي تعيش على هامش المألوف، تعود هنا لتكرر نفس النهج، ولكن في مساحة زمنية تتطلب نفساً مختلفاً عن الحلقات التلفزيونية.

ينطلق الفيلم من فرضية فانتازية بامتياز، ممزوجة بنكهة الكوميديا السوداء والرومانسية؛ لعنة غريبة تطارد نساء العائلة، حيث الموت هو الهدية الحتمية التي يتلقينها في اليوم الذي يتممن فيه عامهن الثلاثين. هكذا ماتت الجدة، وهكذا رحلت الأم، وها نحن أمام حياة (سارة طيبة)، الفتاة التي تحمل في اسمها أكبر مفارقة وجودية ممكنة. إنها حياة التي تسعى للموت.

تجد البطلة نفسها في سباق مع الزمن، فبعد ثلاثة وعشرين يوماً ستكون على موعد مع اللعنة، لكن تمردها يكمن في رغبتها بكسر هذه الحتمية عبر المبادرة. هي تريد أن تهزم اللعنة بالموت قبلها، أن تنتصر عليها بحرمانها من لذة التوقيت الدقيق. هنا يضع الفيلم بطلته أمام تحديين: التحدي اللوجستي المتمثل في الوقت الضيق، والتحدي النفسي والجسدي المتمثل في تنفيذ الانتحار.

في المقابل، يظهر يوسف (يعقوب الفرحان) كطرف نقيض في المعادلة؛ جراح قلب بارع يتعامل مع العضلة النابضة ببرود ميكانيكي، بينما يخفي سراً طبياً يمس ذاته؛ إذ يعاني من ضمور في عضلة القلب. هذه العلة الجسدية هي دافعه الحقيقي للبحث عن أي محفز أو إثارة قوية تشعره بأن قلبه المهدد بالتوقف لا يزال ينبض بالحياة. ومن هنا، يخلق الفيلم شخصيتين غرائبيتين فتاة يطاردها الموت بتوقيت خارجي اللعنة، ورجل يطارده الموت بتوقيت داخلي المرض، ليلتقيا في أزمة وجودية. هذا التأسيس كان يبشر بصراع درامي عميق، خاصة بوجود ممثلين يمتلكون أدوات جيدة للتعبير عن هذا القلق.


العوالم المتناقضة: بين الروضة وغرفة العمليات

في النصف الأول من الفيلم، نراقب عن كثب أكثر من اللازم العوالم الاجتماعية والمهنية التي ينتمي إليها كل منهما. نرى "حياة"، المهووسة بالخرافات والروحانيات، والتي نشأت في منزل يتنفس الأساطير، وتعمل في روضة للأطفال؛ حيث تجد امتداداً لروحها في الطفل "آدم" الذي يختلف عن أقرانه بحس إبداعي ومغامر.

وفي الضفة المقابلة، نتابع الدكتور يوسف في أروقة المستشفى الباردة، يمارس أعقد جراحات القلب، ليراقب بقلق وتحدٍ ارتفاع مؤشر نبضات قلبه العليل أثناء الجراحة التي لا تشكل له اهتماما بالغا بقدر مراقبة ساعته وهي تشير لارتفاع نبضات قلبه، في محاولة مستميتة لاختبار قدرة عضلته الضامرة على الصمود أمام الإثارة.

كان من المفترض أن يكون اجتماع هذين القطبين شرارة لانفجار درامي وفلسفي كبير. كيف يمكن لامرأة تؤمن باللعنات حد اليقين أن تلتقي برجل لا يؤمن إلا بالمبضع والتشريح وكيف سيغير كل منهما قناعات الآخر تكمن جاذبية القصة هنا في أن الرحلة تأخذ كل منهما لضرب صلب معتقداته. "حياة" التي تريد الموت ستكتشف عبر يوسف معنى جديداً للحياة، ويوسف الذي يتعامل مع الأجساد كأرقام، سيكتشف عبر "حياة" أن الروح لا تخضع لمشرط الجراح. كان المتوقع أن نرى صراعاً بين الميتافيزيقا والفيزياء، لينصهر كل ذلك في بوتقة علاقة إنسانية معقدة.


الشرح يفسد سحر الغموض

على الرغم من جاذبية الفكرة وعمق أبعاد الشخصيات بما فيها البعد المرضي ليوسف، إلا أن الفيلم وقع في شرك نسجه بنفسه وأثر بشكل ملموس على تدفقه السردي، وهو ما يمكن تسميته بفخ التبرير

عند التعامل مع سينما الفانتازيا أو الواقعية السحرية، يكون التعاقد بين الفيلم والمشاهد مبنياً على الدهشة وتقبل الغرابة، فمجرد وجود عالمين مختلفين (عالم اللعنات وعالم الطب) هو بحد ذاته مبرر كافٍ للمشاهد لتقبل الأحداث. لكن الفيلم، ولسبب غير مفهوم، بدا وكأنه لا يثق في قدرة المشاهد على تقبل هذه الغرائبية دون شروح مستفيضة، فظل مكبلاً بقرار الاحتكام للمنطق الواقعي بشكل مبالغ فيه.

بدلاً من أن يترك الفيلم مساحة للغموض الجذاب، ويسمح للأحداث أن تتدفق بمنطقها الداخلي الخاص، أضاع وقتاً ثميناً من نصفه الأول في شرح العوالم. قضينا وقتاً طويلاً نتعرف على خالتيّ حياة، وعلى والدي يوسف، وتفاصيل المستشفى، في محاولة لخلق أرضية واقعية لقصة هي بطبيعتها تميل للفانتازيا.

هذا الإفراط في التأسيس خلق حالة من الرتابة أضرت بإيقاع الفيلم، وأفقدتنا جزءاً من الرغبة في تتبع المجهول. حتى الكوميديا، التي كانت تتوهج حين يجتمع القطبان المتنافران حياة ويوسف، كانت تخبو حين ينفصلان، حيث تحولت المشاهد المنفردة إلى مجرد جمل تبريرية تمهد للقاء القادم. بدا وكأن الفيلم يعتذر عن غرائبيته. فلقد كان بحاجة إلى جرأة أكبر في ترك المساحات البيضاء، وفي الرهان على ذكاء المشاهد وقدرته على ملء الفراغات.


ختاماً: رومانسية عذبة ضلت الطريق

بالعودة إلى ما بدأنا به حول المشهد السينمائي، نجد أن "مسألة حياة أو موت" يمثل خطوة مهمة لمحاولته الخروج من عباءة الدراما الاجتماعية نحو آفاق أرحب من الخيال. السينما السعودية لا تزال أمام مساحات بكر لم تُطرق بعد، وكما شاهدنا في المهرجان الفيلم القصير "حارس التاريخ" الذي بدا في دقائقه المعدودة وكأنه مشهد مقتطع من فيلم طويل واعد يبشر بسينما الأكشن والخيال العلمي، فإن هذا الفيلم حمل هو الآخر سمات جريئة، ولعل النقطة المضيئة الأبرز التي تُحسب له تكمن في نجاحه اللافت في المعالجة الرومانسية.

لقد استطاع الفيلم أن يخلق كيمياء عاطفية صادقة ناعمة، وغير مبتذلة بين حياة ويوسف، جاعلاً من رحلة البحث عن الموت سبباً لميلاد حب حقيقي لامس قلوب المشاهدين وأضفى على الفيلم دفئاً ضرورياً. إلا أن هذا الوهج العاطفي والجمال البصري لم يسلما تماماً من أثقال المعالجة؛ فبينما كانت المشاعر تحاول التحليق، كان المنطق التبريري يشدها للأسفل، مفضلاً البقاء في المنطقة الآمنة بدلاً من الانطلاق بأقصى طاقتها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق